علي بن أبي طالب , سلطة الحق

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
13/02/2007 06:00 AM
GMT



مازال لقائي الأول بعزيز كأنه البارحة على الرغم من مرور ربع قرن عليه, فقد زارني لخطبة أخيّتي لأخيه رفقة مجموعة من الوجوه النجفية التي لا يمكن أن يرفض لها أي طلب, إذ كان من بينها السيد الجليل العلامة المحقق محمد تقي الحكيم و السيد الجليل العلامة هادي فياض تغمد هما الله بواسع رحمته.
كانت حفاوتي برفقته لا تعد لها حفاوة, ولا سيما بالسيد الحكيم الذي لم التقية من قبل ولكنه كان ملء السمع والبصر, أما السيد الفياض فقد ربطتني به صلة مودة ومحبة ورثتها عن والدي الذي كثيراً ما اصطحبته لزيارته في مكتبه أو بيته.
وكنت قد سمعت عن الرجل وعن سيرته أشياء من هنا وهناك, إذ لم أكن على اتصال بالصحافة العراقية أو كتب السياسة التي تصدر في العراق على كثرتها خلال السنوات الست السابقة التي قضيتها في مصر للدراسة, وبعد عودتي لم أكن أحفل كثيراً با لسياسة التي كان عزيز قطباً من أقطابها, ولم أقرأ له سطراً واحداً من قبل إلا أن ذلك لم يمنعني من التحديق في ملامحه التي لم تفارقني صورتها لأولى, فقد رأيته طويل القامة ممتلئاً ثاقب النظر حادّه, حنطي البشرة, شاخصاً, قليل الحديث, صارم الوجه على الرغم من الابتسامة المغتصبة التي رسمها على محيّاه أثناء حديث المجاملة الذي دار بيننا, ولا أدري لماذا خيل إلي أن الرجل سليم النية, طيب القلب, ولا أستبعد أن يكون سبب ذلك الانطباع يعود إلى الصحبة المنتخبة التي رافقته, على أن رغبة راودتني في حينها لسبر غوره, ومعرفته من قرب.
كان ذلك اللقاء في خريف سنة 1977م في غالب الظن,ثم مرت أشهر كي ألتقيه ثانية في بيت أخيه الذي كان مديرًا لناحية الحيرة آنذراك, وفي هذه المرة عرفت أشياء جديدة عن الرجل, وخاصة بعد أن قرأت له بعض ما كتب, وبدالي أنه رجل فكر وفلسفة وأدب قبل أن يكون رجل  سياسة, وأنه زجّ فيها زجًّا , وكان لزاماً أن يختلف ويفشل في ظل حكم لا يقبل النقد, ولا يعرف الحكمة, ولا يقيم وزناً لوجة النظر التي تختلف معه حتى وإن كانت تحاول تبصيره بمزالق الطريق, بل يسحق أصحابها بكل حقد وعنف, نظام يسيره المزاج الشخصي الذي كان يخطط إلى قابل عاصف أشد حلكة من جميع العصور المظلمة التي مرت على العراق في تاريخه الطويل, لذا فقد رأيته رحيماً حينما أحال عزيز على المعاش سنة 1977م ولمّا يبلغ الأربعين .
 وبمرور الزمن كنا نلتقي مره كل شهر أو يزيد, ونتجاذب أطراف الحديث بمودة ومحبة مشوبتين بالاحترام,وكنت حريصاً على لاقتراب منه ـ على الرغم من تهيبي له ـ في محاولة لربط الحاضر بالماضي لتشوف المستقبل الذي كنا نراه غائماً تشوبه رياح سموم لابد أن تأتي في قريب عاجل لتعصف  بالحرث والزرع.

وما أتذكر أني سمعته مرة يتشدق بمعرفة هذا أو ذاك, أو بعمله مع هذا أو ذاك, ولعله كان ميّالاً لمحو تلك المرحلة من مخيلته ونسيانها كي يتخلص منها ومن تبعاتها, وكان يلذّ له الحديث عن بعض لأصدقاء من الذين نذروا أنفسهم للفكر و الثقافة, ولم يؤثرّ فيهم بريق سلطة أو جاه أو مال, وقضوا حياتهم على قارعة الطريق, وما كان ميّالاً أيضاً للحديث عن كتبه ومقالاته على كثرتها, ولكنه بمرور الوقت أهداني جميع ما توافر عنده منها على غير عادته.
كان عزيز في بعض كتاباته التي اطلعت عليها يوصي المنخرطين في النضال الوطني بالابتعاد عن مزالق السلطة, وعدم التأثر ببريقها, لأن المناضل الحق هو الذي يكون رقيباً عليها ومحاسبًا  بالدرجة لأولى, وليس مستفيداً منها, وعليه أيضاً أن يكون مثالاً لغيره في السلوك الخاص والعام, وقد حاول أخذ نفسه بتلك لاعتبارات والمقاييس و الرؤى التي و ضعها إلى حدّ كبير .
وكان نهم القراءة موسوعيّها, تظنه أحياناً لم يترك كتاباً في ميادين الحياة الثقافية و لاجتماعية و السياسية و الفلسفية لم يطلع عليه, ولقد رأيته بعين منصفة واحداً من   المفكرين  والكتاب اللامعين الذين التقيتهم في حياتي, و إذا كنت آسف على شئ, فإني آسف على رحيله- تغمده الله بواسع رحمته – في عنفوان عطائه العلمي الذي ينفع الناس.
وعلى الرغم من ضيق ذات يده كان مولعاً بشراء الكتب, ولاسيما النادر والممنوع منها, وما أكثر الممنوعات في ذلك العصر و لقد زرته ذات مساء فأعلمني بفرح أنه استطاع شراء ديوان عمي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي الذي حرّمت السلطة تداوله أو اقتناءه بخمسمائة دينار, وهو مبلغ يزيد على ضعف راتبه التقاعديّ.
بدأت كتابات عزيز خلال الثمانينيات تأخذ منحى جديداً, ولكنه في عرف ذلك العصر يعد منحى تحرشيّا يثير الريبة و الاستغراب, فقد انحسرت مقالاته السياسية واتخذت من الأحداث و الشخصيات لإسلامية الكبرى كالحسين عليه السلام شهيداً, و معركة الطف, والشريف الرضي سلّماً لنقد الواقع و لاعتراض عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة, كما أصدر كتاباً عن المرأة و آخر بعنوان(الصحافة في عالم متغير) ثم أعقبه بآخر عنوانه (مقتل عبد الناصر) الذي راج  رواجًا كبيراً في المشرقين.
كان عزيز متعالياً عن كل ما يشين  أو يتعلق بالكرامة, و كان من السهل على السلطة أن تصفيه يوم قررت ذلك ,  إذ لم يتمسّح بها أو يعتذر لها أو يتوسّل بهذا أو ذاك أو يتوسّط أحدًا , وأظنّه لم يقم بزيارة أحد من معارفه أوأصدقائه الذين كانوا في سدّة الحكم آنذاك خوفًا من اتهامه بما يشين مسيرته , وانزوى في داره ,ولم يشارك بأي نشاط جماعي اجتماعي أ وثقافي , وقد فرض على نفسه إقامة شبه إجباريّة إذ لم يخرج من داره إلا لمامًا , وأتذكر مرة دعانا فيها الصديق العزيز الدكتور علي عباس علوان على مائدة غداء في بيته سنة 1980م, وكان أحد معارفنا من الشعراء قد نشر قصيدة في مدح صدام حسين, وضمنها نقداً لاذعاً للمتزلفين ولأدعياء, و الوصوليين ورأيتها في عين قاصرة تستحق التنويه,فسألت عزيزًا وعليّا إن كانا قد اطلعا عليها , وبدأت أنوّه بها وبجرأة الشاعر ,ورأيتها شجاعة منه أن يواجه النظام بذلك النقد, وقبل أن يعلق علي بادرني عزيز بأسلوب عنيف بقوله :
كان على الشاعر أن يستحي من نفسه , فقد تمسح بعباءة صدام بطريقة لابد أن تسقطه من عيون الناس , لقد أبعد من وظيفته وفصل , وعليه أن يحترم نفسه إلى أن يرد له اعتباره إن كان له اعتبار, أما أن يتزلف هكذا فأمر يدعو إلى الشفقة والأسى  , أما أنا فقد عبرت عن أسفي لأني لم أكن على بينة من ظروف فصل الشاعر, و أما علي فقد حاول بلغته النقدية تلطيف الجو مذكرًا عزيزًا بجهلي الأحداث وذلك لقرب عودتي إلى الوطن.
بدأت الكوارث تتسارع بعد استلام صدام للسلطة, وبدأت الصورة واضحة فيما سيؤول إليه الوضع, ولاسيما بعد اختلاق حكاية المؤامرة التي استهل بها حكمه , ثم اختلاق حكاية تفجيرات المستنصرية التي اتخذت ذريعة للحرب على إيران التي خطط لها وشنها بعد نجاح ثورتها بقيادة لإمام الخميني طيب الله ثراه, وأصبح من العسير على الكتاب و المثقفين العراقيين النجاة من حبائل الشيطان, فإما أن تكون معه, وإما أن تكون من ضحاياه , أما الوقوف على الحياد, أو قول كلمة, أو تقديم نصيحة فأمر في غاية الخطورة, أما بالنسبة لي فقد كان الخطب أكبر, ولاسيما بعد اعتقال أبناء عمومتي الشهداء حسن ,وثائر و جمال و أحمد تغمدهم الله بواسع رحمته, وبعد جهد جهيد تركت العراق في خريف سنه 1981م إلى المغرب, واخترت التدريس بجامعة محمد بن عبد الله بفاس لبعدها عن مقر السفارة بالرباط, وفي تلك الفترة كان يتردد علينا لأستاذ وليد عمر العلي لزيارة أخته الدكتورة زكيّة زوجة صديقنا الدكتور عامر النفّاخ, وجرّنا الحديث يومًا إلى عزيز, فحدثني عنه, وعن اعتداده, وذكر لي موقفًا مفاده أن أ حد  أعضاء القيادة القومية من اللبنانيين طلب من أخيه لأستاذ صلاح الذي كان وزيرًا للثقافة آنذاك أن يجمعه بعزيز, فطلب من وليد اصطحاب عزيز إلى الفندق الذي ينزل فيه العضو القيادي, يقول وليد: ولما وصلنا إلى باب الفندق امتنع عزيز من دخوله, ومن مقابلة الرجل أو التعرف عليه,ولما سألته عن السبب قال: كيف يكون هذا الرجل  مناضلاً ويرضى بالسكن على حساب الشعب في مثل هذا الفندق الفخم الذي لابدّ أن يكلف الدولة مبالغ كبيرة,وهو يعلم بحال البلد. لقد حدثني وليد عن أشياء كثيرة عن سلوك عزيز الصارم , وكنت أسمع أيضًا قصصًا عن حياته المتواضعة التي شهدتها من قرب وعن رعايته المحتاجين من أصدقائه في السر والعلن وعن اعتزازه بنفسه على الرغم من ضيق ذات يده  .
أما علاقة أخوته به فقد رأيتها عجيبة في قدسيتها وصرامتها, إذ كان احترامهم له وحبهم يفوق المعقول, وكان حديثهم معه تشوبه الرهبة والمحبة الصادقة,وفي المرحلة الأخيرة من علاقتي به, كنت أجدني أخًا أملك حقًا في مناقشته ببعض الأمور الخاصة والعامة, وكان الدكتور محسن الذي شغل منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة آفاق عربية صادقًا في دفاعه عن نفسه أمام المسؤولين في عدم تدخله في شؤون أخيه,بل قدرته على التدخل, وكان صادقاً أيضا في كون عزيز لا يطلع أحدا على مشاريعه أو قراراته كي  لا يشرك أحداً بتبعاتها.
 كانت علاقته بوالدته و علاقتها به تفوق التصور أيضًا, وما أظنه ناقشها أو ردّ لها طلبًا ,أما هي فقد أقسمت ألا تنام على فراش منذ اختطافه في منتصف الشهر الرابع من سنة 1991م , ولم أرها طيلة زياراتي لها إلا على بساط من الصوف على الرغم من تدهور صحتها, وهي امرأة لاتختلف كثيراً عن ولدها في صرامتها وتقاليدها, إذ لم تخرج من بيتها بعد موت زوجها إلا لما ماً , إما بسبب الانتقال من بيت إلى آخر , أو لمراجعة مستشفى أو لأسباب قاهرة تعد على أطراف الأصابع. ولقد ربطتني بهده العلوية الجليلة وشائج مودة و إعجاب بدورها في تربية أولادها بعد فقد أبيهم, وعزّه نفسها, وكبريائها على الرغم من فقرها, وكانت تتبسط معي وتخصني بدعاء صادق يزيد من احترامي ومودتي لها.
في سنه 1988م زجّ أخوه محمد في سجن الأمن بمحافظه كركوك بأمر من علي حسن المجيد في قصة من قصص الخوف والظلم والاضطهاد يطول شرحها, فصحبت عزيزًا إلى كركوك , وفيها طلب مني أن نذهب إلى مقر الحزب؛ كنت خائفاً حقاً, وما أن وصلنا إلى مكتب الاستعلامات حتى طلب ورقة خط عليها رسالة إلى قيادة فرع الشمال لا يلتمس فيها, و إنما يطلب محاكمة أخيه إن كان قد ارتكب جرماً أو يطلق سراحه إذا ثبتت براءته , كما كتب رسالة أخرى إلى صدام حسين بالمعنى نفسه, ولم أشأ إطالة النقاش معه, إذ كان يحدثني بسلطة الحق والعدل و المواطنة, وكنت أحدثه عن سلطة علي حسن المجيد المستمدة من سلطة صدام التي لم تعرف يوماً شيئاً أسمه الحق أو العدل أو الرحمة أو المواطنة.
كان كتابه (محمد الحقيقة العظمى) يمثل تحولاً حقيقياً في منحى كتاباته, وكان وقعه غريباً, ورواجه كبيرًا ,  ليس بسبب ما كتبه عن سيرة نبينا المصطفى(ص) وإنما بسبب مقدمته الرائعة التي احتلت حيزاً من الكتاب, فكاتب الفكر و السياسة و الأدب و الفلسفة غابت عنه الحقيقة عقودًا, وهي نصب عينيه ممثلة بقيم الإسلام ومثله وسيرة صاحب الدعوة العظيم محمد (ص), لقد تكشفت له الحقيقة في أبهى صورها فأعلنها في وقت ما كان عليه أن ينبس ببنت شفة عنها , لذا فقد أشاع الكتاب همساً بين أصدائه  وعارفيه, إذ رأيناها مغامرة لابد أن تجرّ وراءها ما تجرّ , ولاسيما في وقت لم يكن فيه من عظيم في العراق غير القائد, وكاتب سياسة وفكر اشتراكي يتحول مثل هذا التحول لابد أن  يكون وراء تحوله ما يكون من عداء للسلطة واعتراض عليها.
ومرت عاصفة الكتاب, ولكنه لم يتوقف, وكأنه أراد أن ينفّس عن الثورة على الوضع من خلال إبراز الصور المشرقة التي ينبغي أن يكون عليها الحكم, وما من سبيل إلى ذلك إلا من خلال تقديم أمثلة, لعل الطغيان يفيق من غيّه حينما يطلع عليها, أو لعله كان يبحث عن طريق للشهادة بوعي أو بدون وعي, فتحقق له ما أراد بعد سنيّة من صدور كتاب (علي بن أبي طالب , سلطة الحق) الذي   سألتقيك به  في الوقفة القادمة.

 2- الكتاب

مازالت ابتسامة عزيز الصافية مرسومة في مخيلتي يوم زرته أول مرة في دائرة لأمن العامة ببغداد على الرغم من مرور ثلاثة عشر عاماً عليها, كنا قبل اعتقاله قد تقاربنا, واحتل كل منا موقعاً طيباً في نفس أخيه بعد مسيرة تعارف تجاوزت العقد من الزمان, قال لي: كان من الممكن أن تكون معنا يا صلاح , ولكن الله نجاك بأعجوبة, لقد وصلتني ثلاث نسخ من الكتاب, وقررت أن أخط على أحدها إهداء لك, وفي لحظة الشروع زارني الشباب لا اصطحابي إلى المعتقل. وبقي الكتاب هاجساً لم تستطع النسخة المسخ التي صدرت في بغداد أن تمحوه من ذاكرتي, وتضاعفت رغبتي في قراءته, وخاصة بعد أن أخذت  زمرة الشيطان عزيزًا إلى جنة الخلد على غير إرادتها في ربيع سنة 1991م.
وفي خريف سنة 1993م زرت صديقي الدكتور طاهر البكاء مودعاً فتحدثنا عن الهم الذي يجثم على صدر العراق, وجرّنا الحديث إلى عزيز وكتابه, فأخبرته أن دوائر لأمن قد اشترت الكتاب ومسودته من الناشر قبل توزيعه ونفذت فيه حكم الإعدام, فهمس في أذني بأنه يمتلك نسخه منه, وحاولت- دون جدوى- أن أطلع عليها, ولكنه رفض , وحق له الرفض.
و مرّت سنيات التقيت فيها محسناً أخا عزيز ببيته في تونس, فأطلعني على نسخة من الطبعة لأصلية, وبسبب ظروف السفر لم تسنح لي الفرصة بتصويرها. وشاء قدر الله أن  ألتقي الكاتب الصحفي المرموق مصطفى الكاظمي في مؤتمر إسلامي عقد بمدينة قرطبة في صيف سنة 2002م, وتذاكرنا عزيزاً وكتابه, فأخبرني أن الكتاب قد أعيد طبعه, وأنه يملك نسخة من الطبعة الثانية, فرجوته أن يتكرم عليّ بتصويرها, ولكنه تعهد مشكوراً بإهدائها بعد عودته إلى لندن, ومن هناك تكفل أخي الأستاذ زكي بحر العلوم بإ برادها, لذا فإن هذه الصفحات مدينة بالشكر والعرفان للصديقين العزيزين الكاظمي وبحر العلوم.
لم أكن أبحث في الكتاب عن سيرة لإمام عليه السلام بعد أن قرأت أغلب ما كتب عنه قديماً و حديثاً, و إنما كنت أبحث عن دوافع أخوان الشيطان في تصويرهم خطورة الكتاب ومؤلفه على لأمن القومي- بزعمهم- في تقريرهم الذي كان سبباً من أسباب تصفية عزيز تغمده الله بواسع رحمته.
كانت كتابات عزيز لإسلامية تثير التساؤل, وظن بعضهم أن نقلته هذه تدعو إلى الحيرة و الريبة, ولكني رأيتها طبيعية, فأغلب الكتاب من المسلمين تحولوا إليها بعد شعورهم بفشل التيارات السياسية في إحداث تغيير حقيقي في بلدا نهم.
وأزعم أن جهوراً من الكتاب و المفكرين تراودهم فكرة الكتابة عن لإمام, وتحاصرهم في مراحل نضجهم, ولكنهم يتهيبونها لرهبة الدخول إلى رحابها, وهي في نظر بعضهم سباحة في بحر لا يدرك غوره, ولا يعرف مداه, وهي أيضاً امتحان للقدرة على التقاط الجوهر في مركب عسر وسط أنواء من زحمة العواطف وتضاربها, ومن زحمة الأحداث وتشابكها, وطول قامة الشخصيات التي شاركت فيها, وبين تاريخ يضج بالمتناقضات, وحاضر يصطرع مع الأخر دون وعي ولا حكمة يجد الكاتب نفسه – في كثير من الأحيان- مضطراً إلى تأجيل مشروعه لوقت آخر تكون الصورة فيه أكثر وضوحاً فيستطيع الاقتراب من ذلك البهاء دون أن يوصم بالتطرف أو التحيز, وهذا ما يلحظ في المرحلة التي كتب فيها عن الإمام كل من طه حسين , والعقاد,ومحمد جواد مغنيه,
وعبد الفتاح مقصود, وخالد محمد خالد, وعبد الرحمن الشرقاوي, وغيرهم, لذا فإنه لا يستغرب أن يكتب عزيز عن لإمام بعد أن صدر له اكثر من أربعين مؤلفًا في موضوعات شتى محورها الإنسان.
 وليس عزيزاً لوحده الذي راح ضحية لإعجاب بالإمام سيرة وحكماً وشجاعة وعدلاً ونهجاً وتشوفاً, إذ لا أظن أحداً ممكن كتب عنه نجا من النقد أو التعقيب, أو السجن أو حتى القتل, وعلى الرغم من ذلك مازال الزحام على أشده في رحاب أبيالسبطين, وسيبقى الحديث عنه موصولا , ما بقيت الأرض عامرة بسكانها تضج بالظلم والاضطهاد والطغيان تبحث فيها فئة من الخلق عن الحق فلا تتشوف بهاءه إلا في سيرة باب مدينة العلم عليه السلام.
وتستطيع وضع مجموعه من التصورات عن الكاتب وكتابه ليس من العنوان فحسب, و إنما من لإهداء أيضاً فالعنوان يوحي أن الكتاب ليس بحثًاً في سيرة لإمام  ,وإن تعرض لها, ولا إلى دوره في إرساء الدعوة المحمدية وإن تعرض لها أيضاً, وإنما إلى دوره في إرساء قيم الحق فيها التي تشوف الكاتب بعض ملامحها صبيّاً في سيرة أبيه الذي أراد لاقتداء بالإمام , لذا كان جديراً أن يقدم له كتابه هذا هدية.
ونحن نعلم أنه ليس من السهل على أي كاتب إهداء جهده لأحد مهما كان, إلا أن يحاصره وفاء لدين يطوقه بالعرفان, أو بريق يأخذ بصره, أو ذكرى تضغط على وجدانه, أو ما إلى ذلك, وقد يسهل عليه كتابة فصول إلا أن من الصعب عليه الاستقرار على كلمات الإهداء, ولا أشك في أن الكاتب الذي أصرّ من كتابه لأول أن يكون اسم أبيه لقباً له, وأن تكون السيادة لازمة لأبيه(جاسم) أراد في هذا الكتاب أن يرتبط أسم أبيه بصلة رحم بالإمام من خلال جانب من جوانب سيرته عليه السلام, لذا لم يكن الإهداء بسبب دوره في حياة ولده تربية وتنشئه  ورعاية, وإنما بسبب تلك الصلة, يقول: (رحم الله أبي كان يشطر رغيف الخبز بيننا وبين السائل, فكان نصيبنا منه السهم لأقل) وما أكثر الفقراء والسائلين في قرية النصر أو الغازية النائية التي ولد بها عزيز ونشأ فيها , وما أقل القادرين على تقديم رغيف الخبز للسائلين, وهكذا فإن عزيزاً الذي أكد صلة الدم بالإمام من خلال (السيد جاسم) أراد أن يؤكد
صلة أخرى هي إيثار أبيه  المحتاجين على النفس و البنين, وهي من أهداف الكتاب, و من سجايا الإمام عليه السلام .
والكتاب من بعد أيضاً عنواناً وإهداء يعطينا تصوراً لخطة المؤلف التي أرادها تشوفاً لرؤى دولة الحق و القانون التي جعل منها الإمام منهجاً صارماً من
اليوم الأول لحكمه, وهي رؤية لا يراد منها إبراز الصورة فحسب, و إنما كي تكون قدوة ومثالاً, وترغيباً بالخلود, وتذكيراً للآخر بأن الملك لله وحده, وإذا كان صدّام وغيره من الحكام قد حاولوا على مر التاريخ التعلق بالإمام من جهة النسب, فإن خلق مثل هذه الصلة لن تكون مبرراً للعظمة أو الخلود أو الشرعية , بدليل أن جميع لأشجار التي علقها الطاغية في جميع لأضرحة المقدسة لم تمنحه الشرعية التي جاهد لتحقيقها, وحينما وجد أن أشجار العالم كلها لن تحقق له  مبتغاه , حارب الإمام بكل الوسائل,و أراد انتزاع محبته من النفوس بوسائل لم تخطر على بال البشرية جمعاء في صفحات تاريخها السود, ولم يتخذ عبرة لا من التاريخ الذي كثيراً ما تشدق به, ولا من غيره, متناسياً ما فعله الطغيان من قبل يوم نبشت آلاف القبور زمن الحجاج وغيره للعثور على رفات الإمام الطاهر, وكأن العثور على  رفاته والتخلص منه سيطفئ نور مسيرته التي عمت المشرقين.
وكان لابد من مدخل لإبراز أولويات المشروع الذي خلق عبقرية بحجم الإمام, فالناس تولد بأقدارها, إلا أن بعض الولادات تكون محفوفة بإعجاز رباني, فإذا كان مخاض المصطفى (ص) أحاطت به المخاوف و لأهوال في حياة جدّيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وفي حياة أبيه عبد الله, فإن الإعجاز الرباني هو الذي حماه, أما مخاض أبن عمه فكان هو الآخر محفوفاً بمشيئة ربانية عجيبة, فقد وضعته فاطمة بنت أسد في بيت جده إبراهيم,وختم الله حياته في بيت الله الجامع بالكوفة وبين الولادة والاستشهاد كانت المشيئة الربّانية تحف ّبمسيرة لإمام في حياة المصطفى ( ص) وبعد وفاته .
وأية سلطة لابد لها من قوة كي تتحقق, وعناوين القوة كثيرة, فقد تستمد من القوه الجسدية, أو من المعرفة, أو من الإيمان, أو من قوة العشيرة , أو من رأس المال أو من غيرها,ولا يستطيع أي كاتب يتناول أي جانب في حياة الإمام أن يغفل الحديث عن شجاعته على الرغم من زحمة ما كتب عنها قديماً وحديثاً,فهو حديث معاجيز يصعب تصورها, وأن تصورنا بعضها, فعلينا أن نتخيل الأطوار التي سبقتها من دربة ورياضة, ولكن هل منحت نفس علي عالياً فرصة لدربة الجسد, أزعم أن مثل هذا لم يحدث ,وأزعم أن روح علي كانت من القوة بحيث أنها لم تسمح للنفس بالسيطرة على الجسد, وأن مشيئة الرب أرادت أن تخلق منه أسطورة ولا كأساطير الأولين فكانت تنهض به إلى ما لم يسبقه إليه أحد, فيوم دعا النبي (ص) عشيرته لنصرته لم يجد من
بينهم ملبياً إلا الفتى الذي لم يبلغ الحلم في نظرهم, ويوم جاء أمر الله إلى نبيه (ص) بالهجرة إلى المدينة لم يكن غير الفتى جديراً بالنوم في فراشه , ودفع أماناته إلى أهلها, ويوم تعذّر على المهاجمين اقتحام حصن خيبر , لم يكن غير حيدرة جديرًا بحمل راية رسول الله , ويوم تشابكت السيوف والرماح على المصطفى (ص) في معركة أحد لم يكن غير عليّ قادرًا على تشتيت ذلك الهجوم  ,بل لم يكن غير عليّ جديرًا بحمل لواء النبي (ص) في كل غزواته إلا واحدة تركه فيها على المدينة كي يكون منه بمنزلة هارون من موسى عليه السلام .
وإذا كانت شجاعته قد أطّرت بهالة  من الرعاية القدسية في رأي بعض كتاب سيرته عليه السلام , بحيث نزعت منه حقه في أن يكون رمزاً للشجاعة والتضحية الإسلامية ؛ فعنترة, وعمرو بن كلثوم,ودريد بن الصمة, وتأبط شراً وغيرهم من صعاليك العرب والعجم ممن أحيطت شجاعتهم بالخوارق والأساطير كانوا شجعاناً بسبب قوتهم الجسدية و عزائمهم التي لا حدود لها, أما علي عليه السلام فإنه يتحرك وسط المهامه و الأهوال ببطولة محروسة برعاية خاصة لم تتوفر  لمثل ذلك النفر, وفي ذلك إجحاف لدور علي الإنسان إذ يبدو وكأن ليس له من فضل , لأن الرعاية هي التي كانت تحركه وتتكفّل بحمايته , غير أن الدارس لسيرة أبي السبطين المتعمق بها يراها نابعة من عزيمة وإصرار, وتربية رسالية,وإيمان قادر على بث قوى خارقة في
بناء جسد قوي, وقلب لم يعرف الخوف مطلقاً وعقل خارق الذكاء, وهذا المزيج, خلق عنده قوة روحية لم تخلق عنده غيره من شجعان العصر لذا انماز عليهم,ويقول الكاتب:(إن أمتياز علي بن أبي طالب بشجاعته الجسدية لم يكن ليعني شيئاً لديه مثلما يعني لسواه من الذين يغترون بقوة الجسد ذلك لأن تلك القوة الجسدية خاضعة لدى علي لشجاعته الروحية ونقائه الروحي),ولم يشك أحد من قبل في أن سيف علي كان سبباً مباشراً من أسباب صمود الدعوة وانتصارها, فإذا كان عدد قتلى المشركين في معركة الإسلام الحاسمة( بدر) نحو السبعين فقد أنفرد سيف علي بفطر هام سبعة وعشرين من سادة قريش وشجعانهم,وقد استمر أبو السبطين في حمل راية الحق إلى النصر المؤزر فكان درعاً واقية لدعوة نبي الرحمة حياً كما كان درعًا لها بعد
وفاته صلى الله عليه وسلّم  ,ً ولم تكن سلطة السيف التي كانت مسلطة على الكفر ولارتداد هي حليته,وإنما كانت في موازاتها سلط أخرى مسلطة على النفس لتجعلها مثالا للحق و الإيثار و العدل و الرحمة , وهي قيم من الصعب أن تقبلها النفوس  وتنصاع لها إذا اختصمت معها, لذا كان جل صحابة الإمام  في حياة الرسول(ص) وبعد مماته من الذين آمنوا أيماناً كاملاً بعدالة رسالة نبي الرحمة, وقدموا أعظم التضحيات في حياتهم كي يبقى نور الإسلام يشع على الإنسانيّة جمعاء  .
كان تملى السلطة المثالية هاجس عزيز ـ  رحمه الله ـ في أغلب كتاباته, فتمثلها أولا في مثاليات الفلاسفة والحكماء على مرّ العصور , ولكنه بعد أن 
جاوز الأنا اكتشفها أولاً في أروع صورها بدعوة سيد الكائنات محمد (ص) فكان كتاب (محمد الحقيقة العظمى) ثم اكتشفها ثانية  في سيرة  الإمام الذي رأى فيه إيمانا صافياً كالبلور وبساطة غريبة في الملبس والمأكل والمجلس, وقطعاً كالسيف في موضع القطع, ورآه لا يعيش ليومه في كل مراحل حياته لان الإيمان الذي تلبسه استحوذ على كامل كيانه؛ لقد رآه قوة لا تعدلها قوة, وسماحة, وطيبة, وحنكة, وإرادة وظفت لخلق مجتمع لا يعرف الجور, أو التسلط أو التحايل, لأن الحكم لم يكن هاجس ذلك لإمام الذي كتبت له الرفعة والخلود على مرّ العصور, وستبقى الأقلام تتبارى في تدبيج ملامح سيرته ما بقيت الأرض.
وعلى الرغم من كل العجائب التي تدافعت على لإمام في كل أطوار حياته – كما يرى الباحث - , فانه كان يدفعها -عليه السلام  - إما بصبره الذي لا يعدله  صبر, و إما بحكمته  وبعد رؤاه, و إما بكلمته الطيبة, وموعظته الحسنه, وعلى الرغم من النفر الهائل الذي أحاط به فانه كان يشعر بوحدة مؤلمة إلا من  صحبة تعد على أطراف الأصابع ما فتئت الأحداث تسلّها من بين أصابعه الواحد تلو الآخر, بل إن جمهرة من الذين كانوا الأقربين في حياة ابن عمه (ص) وظنهم الأقربين  إليه بعد وفاته سلتهم المطامع أو الأحداث أو اختلاف الرؤى من بين أصابعه أيضًا , بل إن بعضهم حاربه أشرس حرب وهو ظالم له, وعلى الرغم من تزاحم الخلق عليه أنصاراً وأعداء فأنهم كانوا يشعرون بالهوة السحيقة التي تفصل بينهم وبينه فتهيّبوه جميعاً.
لقد أراد أثناء حكمه دفع معركة الجمل وغيرها بكل الوسائل والسبل, وجادل القوم وحاورهم بالعقل والمنطق والحكمة, وأراد دفع الشرّ عن الإسلام وأهله بكل وسيلة شريفة كي يتفرغ تماما لنشر الإسلام وً تطبيق دستوره الذي يحقق نواميس الحياة الكريمة والسعادة الأبدية , ولكن التيّار كان هادرًا ,وفسحة الزمن ضيّقة , والمشيئة حاكمة .
ولكي تظل مسيرته نبراساً هادياً حاصرته الطغمة  الباغية بباطلها, وعلى الرغم من شراسته, وقوة أحابيله انتصر عليها في نهاية المطاف انتصاراً ساحقاً
باستشهاده في مسجد الكوفة الجامع.
كان الإمام في كل معارك الإسلام يبحث عن الشهادة في كل الوسائل والصور وعلى الرغم من الوشاح الذي وشّحه نبي الرحمة(ص) به  في معركة أحد(لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي) فانه - كما ينقل  الكاتب - بكى بكاء شديداً حينما زاره الرسول بعد المعركة التي أصيب فيها الإمام  في نحو تسعين جراحة لأن الشهادة قد فاتته هذه المرة أيضاً, ولكن الرسول بشره بقوله : ( إنها من ورائك يا علي) .
يقول الكاتب:كان علي في زمن النبي ( مقاتلاً, فدائيا, مأموراً,ومتطوعا ,ً وكان النبي هو الذي يقرر ويخطط لمعارك العقيدة ضد الشرك ) , ويقول: ( إن طبيعة المقاتل فيه قد بلغت من الاستقامة, ومن العدالة, ومن الشرف المدى الذي أفاءه عليها القران, والرسول, و الإسلام, فهي عند الإمام لا تمثل عدواناً, ولا تشكل بهتاناً, ولا تنطلق وقوداً لأغراض دنيا وأطماع نفس, وهي بهذا ولهذا تجاوز  نفسها إلى أعلى مستويات البطولة, كما أن البطولة عنده وظيفة تحمل أسمى تبعات الرجولة) .
وعلى الرغم من طغيان الفئة الباغية وانتصارها الدنيوي المحدود فإن انتصار أبي السبطين كان باهراً لأنه انتصار للبشرية على مر العصور ومكسب لمعادلاتها الإنسانية لم يتحقق إلا على يده (ولم يستطع التمرد المسلح الواسع النطاق أن يخلق خللاً في معادلاته الذاتية التي كانت في جوهرها معركة الحق
الإسلامي......... ومهما كانت النتائج السلبية التي نجمت عن انعدام التوازن بين حقّانية واضطراب الأجواء السياسية للمسلمين فإن تلك النتائج كانت سلبية في حينها, ولكنها في التاريخ دخلت في الدرس الذي لقنه للخصوم.... لقد كان الدرس أكبر من كل التفاصيل, تفاصيل الربح والخسارة بالمعنى الذي تعرضه السلطة والسياسة على نحو عام, فما قيمة الربح الذي كسبه خصم علي بن أبي طالب بازاء الدروس والحكم والمآثر والأدلة الباهرة التي كسبتها البشرية من علي بي أبي طالب على )حدّ تعبير الكاتب .
كان عزيز كغيره  من الكتاب والمفكرين العراقيين الشرفاء يبحث عن أية وسيلة لإيقاف شلال الدم الذي تدفق على يد طاغية العراق, وشلالات الظلم
والاضطهاد و التعسف الذي مارسته سلطته  الباغية, وكانت صورة الإمام القديمة التي علقت في بيت والده في القرية, والصورة الأخرى التي علّقها في بيته و قال عنها :  إنها  مصورة عن صورة في متحف اللوفر, وإنها أقرب إلى حقيقة عليّ من سواها, كان يراه خير مثال يمكن تقديمه إلى تلك الفئة الطاغية علّها تفيق من غيّها, ولعل المقارنة في ذهنه كانت حادة ومؤملة , كما آلمت عشرات من عشاق الكلمة الشريفة, كان يرى الإمام(يبني سلطة عادلة, قوامها الإدارة الذاتية للجماهير المؤمنة, وبكلمة أخرى كان يصنع سلطة متحررة من أدواتها الترابية والقمعية المستعلية على المجتمع) و(كان أول ما باشر عمله تحقيق المساواة الاقتصادية على أساس أن العباد عباد الله, والمال مال الله, وهم شركاء فيه على قدر الجهد, لا على قدر التقوى, فجزاء التقوى عند الله) وكان يريد ( إعادة الأمور إلى نصابها فيدمج الحاكم والدولة بالأمة التي هي الأصل والأساس, والأول والأخر, إن  هذه الإدارة هي منهجه السياسي, النابع من فكره ومبادئه التي تشرب بها من المصطفى) , وكانت فكرته عليه السلام تعتمد ( على العلاقة المباشرة بين الخليفة والناس, وتلك العلاقة التي يضبطها المسجد الجامع والصلة الحرة المباشرة, في الأسواق, وفي ميادين العمل وفي ساحات القتال حيث لا حدود ولا مسافات  ولا أسيجة تفصل المواطن عن الخليفة, وكانت الحلول لكل المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا توضع في عهدة بيرو قرا طية متنفذة ,  أو
في أطر متعالية سّرية, بل هي توضع في مجرى الصلة الحية المباشرة, وفي مجرى الحوار المتدفق بين أفراد المجتمع رعاة ورعية)  , و(كانت نظرة الحق تريه أن الناس سواسية, فكان يرفض رفضاً باتاً سياسة التمييز القومي, والشوفينية القرشية التي كانت تروم تحويل تراث النبي العظيم إلى مكاسب خاصة, فالإسلام دين البشرية الذي دخلت تحت لوائه أمم وشعوب وقوميات مختلفة, فلا محل- إذن- لأي استعلاء قومي, ولأية عرقية, مثلما, لا محل لأية هيمنة أرستقراطية مغالية) , وكانت السلطة في زمانه هي سلطة الحق ( وكان عليّ نفسه الضمانة الكبرى والأساسية لاتصاف السلطة بالعدل, لقد كان بذاته سلطة خارج السلطة, وهذا هو الفارق الجوهري بينه وبين سواه من رؤساء الحكم الذين هم في حقيقة حالهم عبيد السلطة , مثلما يكون بعض الأثرياء الكبار عبيد المال ) , ( وقد كانت تجربة السلطة  عند علي بن أبي طالب طرازاً إسلاميا فريداً نافعاً لجميع المذاهب السياسية الإنسانية التي
تفكر بكيفية إخضاع الدولة لواجباتها وعدم التمرد على المجتمع بركوبها على كتفيه, كان  عليّ بن أبي طالب يدير سلطة مكشوفة للناس هي سلطتهم أنفسهم, والتي تتحقق فيها أرقى صورة للإرادة  الذاتية و التسيير الذاتي) , ( إنها سلطة المجتمع الفعلية من الشعب وإلى الشعب, وليست السلطة المزدوجة التي تظهر على نحو وتبطن نحواً آخر, فالمال ملك الناس, والفيء ملك الناس, والقوانين في خدمه الناس, ويناقش الجميع أمور دنياهم ودولتهم بحرية تامة كما يناقشون أمور دينهم) .
كان الإمام عليه السلام زمن النبي ركيزة من ركائز تثبيت قاعدة(العدل أساس الحكم), وكان العدل في توزيع الثروة أساس استمرار قيم الحق التي جاهد الرسول لإرسائها, لذا فليس من المستغرب على الإمام أن يفتتح يومه الأول في الحكم بقوله ( ألا وأ يّما رجل استجاب لله ورسوله فصدق ملتنا, ودخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده, فأنتم عباد الله, والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية ولا فضل فيه لأحد على أحد, وللمتقين عند الله أحسن الجزاء) لذا كان صوته (إيذاناً  بتقسيم أموال بيت المال على المسلمين سوية بلا فروق, وبلا مزايا وامتيازات. كان ذلك حدثاً كبيراً جداً بازاء ظهور فئة من الذين كنزوا الذهب والفضة, بعض باسم السابقة في الإسلام, وبعض من خلال السلطة, وبعض من خلال القرابة للولاة والعمال وغير ذلك).
كانت فصول الكتاب تمهيداً وعقدة ونتائج تتسارع دائماً لتوضيح سلطة الحق في سلوك الإمام ومسيرته الخالدة, وكان تحليل الكاتب يبدو نموذجياً في قراءة النصوص التاريخية أو  في قراءة تراث الإمام النثري في خطبه ورسائله ووصاياه, وكان فهمه أحياناً جديداً لم يطرق من قبل بحسب خلفيته التي تشربت الفكر السياسي قديماً وحديثاً, وكان حقاً خطراً على أمن الطغمة  الفاسدة, لذا كان لزاماً عليها إعدام الكاتب وكتابه, وخاصة بعد أن استولت على كل مقدرات البلاد  واغتالت  كل شيء جميل فيه.
أما قراءة الكتاب فقد كانت متعة ولا كبقية المتع, وكان قلمه زلا لاً وتحليقاً في أجواء ملائكية من الصفاء والتجرد, وإذا كنت ترى  في كتابات الآخرين
اصطفافاً مع الإمام, فإنه حاول جاهداً الابتعاد عن كل ما يشوبه من تهم طائفية نعته بها إخوان الشيطان في تقريرهم, ولعل عزيز من الفئة التي كتبت عن الإمام ولم ترجع إلى أي مصدر يتهم بالتشيع أوالتطرّف أو الطائفية .
أما فصول  الكتاب الأحد عشر فأغلب ما ورد فيها جديد في طرحه ومعالجته ؛ من فصل ( مشيئة الرب) وحتى فصل ( سلطة النص في بلاغة علي بن أبي طالب) , وكانت مقدمة الكتاب حريّة في أخذ قارئه إلى خاتمته , في أسلوب عفيف العبارة مشرقها يفيض بالأمل في مستقبل آت  قريب لدولة الحق والقانون, ولا أشك في أنه سيبقى مرجعاً مهماً لكل المحاولات القادمة التي ستتناول مسيرة الإمام , ونبراساً لكل حاكم يحاول حجز صحيفة في سجل الخالدين.
أنا على يقين أن كتاب عزيز عن الإمام عليه السلام  كان أصدق تجاربه وأصعبها, وعلى الرغم من أنه لم يتمتع بجني ثمار صداه حياً, فانه نال به جائزتي الشهادة والخلو د في آن واحد, وبذا كانت خواتيمه من أعظم ما يتمناه الكاتب المخلص لقضيته وأمته.